كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ففررت} أي: فتسبب عن فعلها أني فررت {منكم} أي: منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ {لما خفتكم} على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطًا وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرًا مهدر الدم {فوهب لي ربي} الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة عليّ مما أحدثتم من الظلم {حكمًا} أي: علمًا وفهمًا، وقيل نبوّة {وجعلني من المرسلين} أي: فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره، ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأه بجوابه عن التعيير ولأنه الأخير فكان أقرب ولأنه أهم، وهو معنى ما تقدم من أنه على طريقة النشر المشوش بأن يبدأ بالأخير قبل الأوّل، ولهذا كرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله موبخًا له مبكتًا منكرًا عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالًا في القول وإحسانًا في الخطاب وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة بقوله: {وتلك} أي: التربية الشنيعة العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها {نعمة تمنها عليّ أن عبدت} أي: تعبيدك وتذليلك قومي {بني إسرائيل} أي: جعلتهم عبيدًا ظلمًا وعدوانًا وهم أبناء الأنبياء ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة بإحياء نفوسكم أولًا وعتق رقابكم ثانيًا، ما لا تقدرون له على جزاء أصلًا ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد فأمرت بقتل أبناءهم فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك، ولو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليمّ فكيف تمن عليّ بذلك؟ وقيل: معناه إنك تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في تربيته. وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إنّ الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعامًا.
فإن قيل: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت؟
أجيب: بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى: {إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك}.
وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، ولما قال له بوابه إنّ هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين وأدخله عليه.
{قال} له {فرعون} عند دخوله حائدًا عن جوابه منكرًا لخالقه على سبيل التجاهل كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله كما كان فرعون يعرف لقول موسى عليه الصلاة والسلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر}.
{وما ربّ العالمين} أي: الذي زعمتما أنكما رسوله وإنما أتى بما دون من لأنها يسأل بها عن طلب الماهية كقولك ما العنقاء، ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته عدل موسى عليه السلام إلى جواب ممكن فأجاب بصفاته تعالى، كما قال تعالى إخبارًا عنه:
{قال رب} أي: خالق ومبدع ومدبر {السموات} كلها {والأرض} وإن تباعدت أجرامها بعضها من بعض {وما بينهما} أي: بين السموات والأرض فأعاد ضمير التثنية على جمعين اعتبارًا بالجنسين وخصه بهذه الصفات لأنها أظهر خواصه وآثاره وفيه إبطال لدعواه أنه إله، ومعنى قوله: {إن كنتم موقنين} أي: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدّي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق.
{قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة وكانت للملوك خاصة {ألا تستمعون} جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقته وهو يجيبني بالفاعلية، ولما كان يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذاتها فهي غنية عن الخالق.
{قال} لهم موسى زيادة في البيان {ربكم ورب آبائكم الأولين} فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقًا لهم ولآبائهم، إذ لا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لأنّ المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبًا لذاته واستحال وجوده إلا بالمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ولكن فرعون لم يكتف بذلك ولهذا.
{قال إنّ رسولكم} على طريق التهكم إشارة إلى أنّ الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس ثم زاد الأمر بقوله: {الذي أرسل إليكم} أي: وأنتم أعقل الناس {لمجنون} لا يفهم السؤال فضلًا عن أن يجيب عنه، فكيف يصلح للرسالة من الملوك؟ فلما قال ذلك عدل موسى ج إلى طريق ثالث أوضح من الثاني بأن.
{قال رب المشرق والمغرب} أي: الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} من المخلوقات لأنّ التدبير المستمرّ على هذا الوجه العجيب لا يتمّ إلا بتدبير مدبر قادر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع نمروذ، فإنه استدل أولًا بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكر موسى عليه الصلاة السلام بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين} فأجابه نمروذ {أنا أحي وأميت}.
فقال: {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}.
وهو الذي ذكره موسى ج بقوله: {رب المشرق والمغرب} وأما قوله: {إن كنتم تعقلون} فكأنه ج قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لك، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فمن كان عاقلًا يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته لك، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق وعدل إلى التخويف بأن.
{قال لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين} أي: واحدًا ممن هم في سجني على ما تعلم من حالي في اقتداري ومن سجوني وفظاعتها، ومن حال من فيها من شدّة الحصر والغلظ في الحجر. قال الكلبي: كان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق وحده لا يسمع ولا يبصر فيها شيئًا، وقرأ ابن كثير وحفص وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ذكر موسى ج كلامًا مجملًا ليعلق فرعون قلبه به فيعدل عن وعيده، بأن.
{قال} مدافعًا بالتي هي أحسن إرخاء للعنان لإزادة البيان معنىً لا يبقى معه عذر ولا نسيان، لأنّ من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي: أتسجنني ولو {جئتك بشيءٍ مبين} أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بشيء بدليلين يدلان على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك.
{قال} طمعًا في أن يجد موضعًا للتكذيب أو التلبيس {فأت به} أي: تسبب عن قولك هذا أني أقول ائت بذلك الشيء {إن كنت من الصادقين} أي: فيما ادعيت من الرسالة.
تنبيه:
الواو في أولو جئتك واو الحال وليتها الهمزة بعد حذف الفعل كما علم من التقرير، فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأوّل وهو قوله أولو جئتك بشيء مبين أي: بآية بينة والمعجز لا يدل على ذلك كدلالة سائر ما تقدم؟
أجيب: بأنه يدل بما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه ما تقدم.
{فألقى} أي: فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى موسى {عصاه} التي تقدم في غير سورة أنّ الله تعالى أراه إياها ولم يصرّح باسمه اكتفاء بضميره لأنه غير ملتبس {فإذا هي ثعبان} أي: حية في غاية الكبر {مبين} أي: ظاهر ثعبانيته، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت إلى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون أسألك بالذي أرسلك إلا ما أخذتها فأخذها فعادت عصا، فإن قيل: كيف قال هنا {ثعبان مبين} وفي آية أخرى {فإذا هي حية تسعى}: وفي آية ثالثة {كأنها جان}: والجان مائل إلى الصغر والثعبان إلى الكبر؟
أجيب: بأن الحية اسم الجنس ثم لكبرها صارت ثعبانًا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم}.
ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعبانًا، ثم إنّ موسى ج لما أراه آية العصا قال فرعون هل غيرها قال: نعم.
{ونزع يده} أي: التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجزوا عن إبرائها نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه {فإذا هي} بعد النزع {بيضاء للناظرين} يضيء الوادي من شدّة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر ويسدّ الأفق، فعند هذا أراد فرعون لعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورًا أوّلها أن.
{قال للملأ حوله} لما وضح له الأمر يمّوه على عقولهم: خوفًا من إيمانهم {إنّ هذا لساحر عليم} أي: شديد المعرفة بالسحر، حوله: حال من الملأ ومفعول القول، قوله: {إن هذا لساحر عليم} ولما أوقعهم بما جبلهم به أحماهم لأنفسهم فقال ملغيًا لجلباب الإلهية لما قهره من سلطان المعجزة.
{يريد أن يخرجكم من أرضكم} أي: هذه التي هي قوامكم {بسحره} أي: بسبب ما أتى به، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد، ثم قال لقومه الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم، ما دل على أنه حارت قواه فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه لما استولى عليه من الدهش والحيرة حتى جعل نفسه مأمورًا بعد أن كان يدعي كونه آمرًا بل إلهًا قادرًا {فماذا تأمرون} أي: في مدافعته عما يريد بنا.
{قالوا} أي: الملأ الذين كانوا حوله {أرجه وأخاه} أي: أخر أمرهما ومناظرتهما إلى اجتماع السحرة، ولم يأمر بقتلهما ولا بما يقاربه، فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه. وقرأ قالون بغير همز واختلاس كسرة الهاء، وورش والكسائي بغير همز وإشباع حركة كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وصلة الهاء مضمومة، وأبو عمرو بالهمزة وضم الهاء مقصورة، وابن ذكوان بالهمزة وكسر الهاء مقصورة، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء {وابعث في المدائن حاشرين} أي: رجالًا يحشرون السحرة، وأصل الحشر: الجمع بكره، وقيل: إنّ فرعون أراد قتل موسى فقالوا له لا تفعل فإنك إن تقتله دخلت الناس شبهة في أمره، ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا يثبت له عليك حجة، وعارضوا قوله: {إنّ هذا الساحر عليم}.
بقولهم:
{يأتوك بكل سحار} أي: بليغ في السحر، فجاءوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليطمأنوا من نفسه ويسكنوا من بعض قلقه {عليم} أي: متناه في العلم به بعدما تناهى في السحرية، وعبر بالبناء للمفعول في قوله.
{فجمع السحرة} إشارة إلى عظمة ملكه، أي: بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة {لميقات يوم معلوم} أي: في زمانه ومكانه وهو ضحى يوم الزينة كما مرّ في طه، وعن ابن عباس: وافق يوم السبت من أول يوم من سنتهم وهو يوم النيروز.
{وقيل} أي: يقول من يقبل لكونه عن فرعون {للناس} أي: عامّة وقوله: {هل أنتم مجتمعون} فيه استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم كما يقول الرجل لغلامه هل أنت منطلق إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أنّ الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شرًا، اسم شاعر:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ** أو عبد رب أخا عون بن مخراق

أي: هل أنت حث على إرسال دينار أو عبد رب، اسمي رجلين، والثاني منصوب على محل الأوّل، وأخا عون منادى أو عطف بيان له، وعليه اقتصر الكشاف.
{لعلنا نتبع السحرة} أي: في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي: لموسى في دينه ولا نتبع موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى، وقيل: أرادوا بالسحرة موسى وهارون وقالوا ذلك على طريق الاستهزاء وعبر بالفاء في قوله: {فلما جاء السحرة} أي: الذين كانوا في جميع بلاد مصر إيذانًا بسرعة حشرهم لضخامة ملكه ووفور عظمته {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد ومجاز القصد {آئن لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين} موسى، وأتوا بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفًا له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له.